السبت، 28 مارس 2009

الشاعر"فؤاد قاعود "صاحب الفرازة


الشاعر"فؤاد قاعود "صاحب الفرازة



محمد عثمان جبريل


صدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة الأعمال الكاملة للشاعر الكبير "فؤاد قاعود " ؛ وهى مبادرة تستحق الإشادة ففؤاد قاعود و بحق من أكبر شعراء شعر العامية و إن كان رحمه الله لا يقبل إلا مصطلح ( شعر العربية المصرية ) فيقول: (إننى أرفض تماما تسميتنا بشعراء العامية، وتسمية شعرنا بشعر العامة، فلا يخفى على أحد ما تحمله الكلمة من معانى التدنى بل والأمية، ذلك أن العامة هم فى مقابل الخاصة.. الأولون فى أسفل السلم الاجتماعى والثقافى بالتالي.. أما الآخرون فهم علية القوم وهذه مغالطة من أكبر المغالطات التى تتعرض لها قضية شعرنا)

و بالرغم أنك ستدرك بمجرد قراءة أول قصيدة له أنه صاحب صوت متفرد فى تجربته الشعرية المتوهجة كالذهب ؛ فقد رأى البعض أنه تأثر كثيرا ببيرم و بعده حداد ، بل اعتبره آخرون أنه امتداد لجاهين متأثرين بحقيقة أنه مكتشفه و مقدمه للمتلقين و القراء فيقول عنه جاهين ( تأثر فؤاد قاعود بالمتنبى فكثر فى شعره الفخر و التعالى و تأثر بالمهجرين فنحا نحوهم فى الشعر الفكرى و تأثر ببيرم فأجاد النظم و السيطرة على الكلمات و طوعها للأغراض الشعبية وتأثر بعصره فأصبح واحدا من الذين يعملون على ان تصبح العامية المصرية لغة أدبية تستطيع أن تحمل فى أحشائها كل الصور و الرؤى الشعرية العاليمة ) وهنا نلاحظ أن التأثر عند جاهين لا يعنى إلا الوعى لا التقليد .


أما عن تفرده فنستأنس بشهادة للأبنودى قالها فى عام 1978 : (لم يتأثر قاعود بأحد، بل كان صوتا جميلا يحمل عالما جميلا، ويتغنى على إيقاعات خاصة به تماما) نعم فقد أبدع قاعود لغته الخاصة التى جمعت بين قدرته الساحرة فى استخدام كلمات و تراكيب فصيحة و مزجها بجمال فائق مع العامية بقدرة تلقائية لا تشعر مطلقا بتكلف الاصرار و القصدية ؛ موجدا لغة شعرية راقية ؛ لا أعرف لماذا لم يتوقف النقاد أمامها ومنظرين لها حتى تصبح لغة إرشادية لكل من يريد أن يتوسل بالعامية أو بـ " بالعربية المصرية " فى إبداعه الشعرى .

و المدهش أن حياة "قاعود" كانت كشعره التى لخصها لنا النقاد فاروق عبد القادر فى تقديمه لديوان " المواويل " لقاعود قائلا :) الحقيقة التي يجب قولها هنا ، ودون تردد ، هي أن الشاعر لم يفقد الأمل أبدا في أن تشرق يوما الشمس التي توزع الدفء والضوء على الجميع ، وهذا ما يرجح عندي القول بأن هذا القهر ليس كونيا ، لكنه قهر موضوعي مرتبط بعوامل محددة في الواقع الاقتصادي – السياسي – الاجتماعي ، قهر لا يتعالى على قدرة الإنسان على الفعل والتغيير .. إن ملامح العالم الشعري لفؤاد قاعود تتحدد أكثر فأكثر على ضوء هذه البلورات الصغيرة ، هذه الفرائد ، حين انتظمها خيط واحد هو الذي ينتظم إبداع الشاعر على العموم : القهر ، والرفض ، والتماس سبل الخلاص .. أشعار قاعود إذن هي ثمرة ناضجة من شعر العامية المصرية ، لشاعر آثر أن يعتزل ضجيج السوق ، فوقف بعيدا ، لا يحول شئ بينه وبين أن يقول كلمته ، مؤمنا بأن لا شئ يأتي ويذهب دون أثر)

فهكذا منذ أن اكتشفه الفنان الكبير صلاح جاهين فى أواخر الخمسينات ؛ ورأى فيه قيمة أدبية كبيرة فعمل على تقديمه للحياة الأدبية ؛ فأتى به من الاسكندرية و قدمه للأديب الكبير إحسان عبد القدوس ، فرأى فيه ما رآه جاهين فعينه محررا بمجلة صباح الخير عام 1963، لم تختلف حياته العملية عن روح شعره ؛ فأخلص له و عمل بشكل صادق على تقديم شعراء كثيرين، يدينون له ولبابه الفرازة بالفضل،وكاتب هذه السطور منهم ؛و آثر العزلة الإيجابية ؛ يقرأ و يكتب غير متعال على الواقع ولا منفصل عنه ؛ لكن ليسمو فوق أدران الشهرة و إدمان الظهور الذى يعرض صاحبه لإغراءات قد تصيب صدقه فى مقتل كما حدث لشعراء كبار ؛ فسدت تجربتهم فى دروب السلطة و المال .
ولنسمعه وهو يقول موضحا رؤيته : لو غيتك شهرتك اعمل لها طبال /صوت الكفوف/ع الدفوف يدوش لكين قتال/والشهره مهره حويطة تقلب المختال/تجمح وترمح وتقزح باللي راكبها/يا يطب للديل يا يطلع فوق مناكبها/تعاند اللي ركبها والغرور ساقه/وتصاحب اللي يلجمها بأخلاقه/والحر لجل الحقيقة يركب الأهوال

و بنشر الأعمال الكملة لأستاذى فؤاد قاعود يتاح للجميع فرصة الولوج فى عالمه الذى سيضفى بلا شك قيمة ومتعة لكل من يقرأة ؛ و أتمنى ان يكون مشجعا للنقاد و المهتمين بإعادة اكتشاف فؤاد قاعود الذى إن كان فى الظاهر أنه ظلم بعدم تسليط الضوء عليه فالحقيقة ان المظلوم حقا هو جمهور الشعر العربى
.
نشر المقال بجريدة الديار التى تصدر فى القاهرة كل يوم ثلاثاء و أتشرف بكونى المحرر الثقافى للجريدة
( ذكر أسمى فى آخر الجزء السادس من الأعمال الكاملة للشاعر الكبير... وهو أمر أفخر به )

المثقف ذلك المجهول ....!



المثقف ذلك المجهول ....!



يستكشفه /محمد عثمان جبريل


توجد نظرتان حول من هو المثقف؟ إحداها ترى المثقف هو من يقوم بتحصيل المعرفة للوصول لوعى ناتج عن معرفته؛ ويمارس دوره بنقل هذا الوعى المعرفى للمجتمع؛ باعتباره مرشدا وموجها، يأخذ بيد مجتمعه نحو المستقبل. والثانية لا تعترف بالمثقف إلا إذا شارك بضمير حر في الشأن العام من أجل تطوير المجتمع حتى لو اضطر لمناقضة السلطة. سواء كنا من أصحاب إحدى النظرتين وبحثنا عن بصمات مثقفينا فى الوطن العربى؛ ولنأخذ مصر كأنموذج باعتبار أنها المركز الثقافى الأثقل لظروف تاريخية؛ ربما نعثر على تجمعات ثقافية وربما نعثر على حوارات دائرة بشكل ملتهب؛ لكنها بلا مردود إيجابي من ناحية الالتحاق بالمستقبل!
قد أوصف بالتشاؤم بسبب عوامل الهدم التى تبدو بشكل مقصود أنها قضاء وقدر؛ أقول: المسألة لا تدخل فى باب التفاؤل والتشاؤم؛ ولكن من يختلف معى عليه أن يثبت بالدليل تأثيرا واحدا للمثقفين العرب اللهم غير رصد الواقع؛ بشكل انتقائي حسب تلونه الأيدلوجي. وقليل منهم من يفعل ذلك من غير نرجسية وظيفية!
فعلى المثقفين الحذر من الواقع العالمي؛ الذى أخرجنا من وضع "مفترق الطرق" إلى وضع "نكون أو لا نكون"، عاملا على دفعنا بقوة لأن نصبح أمة يشار إليها فقط كأمة يجب الحفاظ عليها لأغراض علمية كالكائنات المنقرضة؛ فلا مفر إلا بنفض ركام محاولة البحث عن هوية مستوردة من الغير سواء كان هذا الغير متمثلا فى الآخر الأجنبى والذى يتسم بالضرورة بسمات إذا قبلناها بلا انتقاء أصبحنا فى عداد المنقرضين واقعيا كأمة لها ملامحها وتميزها؛ أو باستيراد هوية ماضوية بشكل سلفى، لكن علينا تجاوز إغراءات الأنماط الجاهزة؛ بإظهار المقومات الخاصة لأمتنا والتى بالضرورة قابلة للحياة مع قبول ما وصلت إليه الإنسانية بما لا يناقض هذه المقومات؛ مع الاستعداد لخوض صراع مع السلطات الرسمية وغير الرسمية. و إلا ... فلنسرع بحجز أماكن عرض متميزة فى متاحف العالم!!!

نشرت فى عمود عناقيد أدب بجريدة الديار

عزازيل بعد هدوء العاصفة/ الرواية الحاصلة على بوكر العربية 2009


"عزازيل" بعد هدوء العاصفة
الرواية الحاصلة على بوكر العربية 2009



قرأها لكم /محمد عثمان جبريل


قرأت رواية عزازيل أول مرة بعد أن أغرانى على ذلك صديق يعيش فى عالم الرواية العربية أكثر مما يعيش فى بيته ؛ لذا لم أشك فى إعجابه المنبهر؛ و اندفعت التهم أوراقها ؛ و أدركت من القراءة الأولى أن "عزازيل " هى أنموذج تطبيقى لنظرية د.يوسف زيدان فى الرواية : (هي صناعة إبداعية ثقيلة ففي الشعر يحلق الشاعر في الصورة الذاتية ويستعين على ذلك بالرهافة اللفظية، وفي القصة القصيرة ينطلق المعنى في النص كحجر المقلاع مثلما قال جلال الدين الرومي "المعنى في الشعر كحجر المقلاع ليس له اتجاه محدد".أما الرواية فهي بنية هندسية مشتملة على معارف كثيرة وسياقات مركبة وتداخلات فهي عالم متماسك به الهندسة واللغة وفيه المعرفة والحكاية الراقية وبه أيضا الخطاب الفلسفي مما يجعل الرواية صناعة إبداعية من الصناعات الثقيلة.) و أشفقت على كاتبها من أعاصير سونامى المتطرفة ...وكما قال الدكتور يحي الجمل أول من كتب عن الرواية على حد علمي فى خاتمة مقاله الذى نشر بالأهرام بعنوان" الشيطان عزازيل "( ويل لهيبا " الراهب بطل الرواية " وليوسف زيدان لو أن المؤسسات الدينية الرسمية قرأت ما خطته يمين كل منهما.)

وحقق الهجوم الكنسي و القبطي الشعبى للرواية ما يرجي من شهرة و انتشار كما يحدث فى الغالب مع الكثير من الكتب التى تلاقى هجوما ظلاميا من من ينصب نفسه متحدثا بالنيابة عن الإيمان ؛ و ان كانت هذه الرواية تستحق من حيث البناء و اللغة و السرد و الفكر هذا الذيوع ؛ وقد رشحت ضمن ستة أعمال للجائزة العالمية للرواية العربية " البوكر العربى" و ستعلن الرواية الفائزة فى شهر مارس المقبل، و تعددت أساليب الهجوم من محاولة مصادرة الرواية إلى الرد عليها فى مؤلفات كتبها رجال دين و كأنهم يناقشون كتاب فى العقائد و دون النظر إلى طبيعة الرواية ؛ كما لاقت الأجزاء التى يصف فيها المؤلف علاقات الراهب النسائية؛ و إن كان اسهب فى وصف تفاصيل علاقته بأول إمرأة يعشقها؛ حتى وصفها بعض النقاد أنها مبالغة فى الوصف الجنسي أفسد على القارئ تركيزه فى تتبع جوهر الرواية ؛ يبدو ذلك من أول وهلة صحيحا،لكن عندما نقارن بين السرد فى علاقة هيبا بعشيقته الثانية "مرتا" نجده و كأنه يستحي من ذكر التفاصيل؛ ربما تبجيلا للمكان الذى دارت فيه الأحداث وهو الدير أو لأنه يحكى عن حاضر؛ أما حكايته مع "أوكتافيا" فهى ذكريات قديمة يسترجع تفاصيلها كنوع من العزاء ؛و أرى أن هناك دافع درامى وجيه لتوظيف تفاصيل العلاقة الجنسية بين "هيبا " الراهب الشاب القادم من أقصى الصعيد بالمرأة الناضجة الوثنية "أوكتافيا"التى تعيش فى الأسكندرية حاضرة الدنيا فى هذا الوقت فى تجسيد حالة الصدام بين نمطين للوعى بالحياة ؛ نمط مرجعيته وثنية يرى أن الجسد هو الوسيلة الرئيسة فى الاتصال بالحياة و نمط مسيحى ينكر الجسد بشكل تحريمي؛ لذلك أرى ان استخدام الجنس هنا لم يكن مغايرا لوحده نسيج الفكرة وجوهرها بل ساعد على إضاءة بعض جوانبها.

بمتابعتى للنقد الذى احتفى بالرواية و بالهجوم و التأييد الذين لم ينبعا من كونها رواية بل كتاب فى مقارنة الاديان ، وفى هذا ظلم لعمل روائي رصين وجميل فى نفس الآن ؛ لكن أرى أن الكاتب نفسه اشترك فى الايحاء للكثيرين بهذا التناول؛من اول الغلاف الذى وضع مصممه ( غير مذكور) قطعة بردية من مخطوطة مسيحية ؛ إلى المقدمة التى كتبها على لسان محقق و مترجم وهمى كتبها على منوال المقدمات العلمية للمخطوطات المحققة ؛ و الغريب أنه بدأها بعبارة مشوقة بشكل سينمائي ( كالمشهد(المثيرة) الذى يسبق التترات فى أفلام التشويق و الاثارة الامريكية): " يضم هذا الكتاب الذى أوصيت أن ينشر بعد وفاتى ، ترجمة أمينة قدر المستطاع لمجموعة اللفائف (الرقوق) " مما أعطي انطباعا لدي البعض و الغريب أن منهم من المتخصصين أن "عزازيل" ليست إلا نشر و تحقيق لمخطوطة قديمة أو على الأقل فهى رواية مستقاة من هذه المخطوطة ؛ و ساعد فى عدم إزالة هذا اللبس تخصص المؤلف وشهرته كباحث ومحقق للتراث الإسلامي و المسيحي ؛ وكانت هذه المقدمة و الصور التى تحدد مسرح أحداث الرواية صبغت عليها صبغة تسجيلية توثيقية ؛ طغت على حرصه على وضع كلمة "رواية " التى تحدد جنس الكتاب ؛ و بالإضافة لكل هذا اختياره للحديث النبوى الشريف" لكل امرئ شيطان ، حتى أنا ، غير أن الله أعاننى عليه فأسلم " و الذى صدر به الرواية فرآه البعض مفتاح لفهم طبيعة عزازيل الذى يقصده و البعض الآخر رآه و كأنه يريد ان يقول ان هذا كتاب ينتصر للتصور الإسلامي لطبيعة المسيح .

وقد برر زيدان اختياره لهذا القالب و الذى أسهم كثيرا فى اللبس ؛ أنه من صميم حرية المبدع؛ و أنه حرص على إظهار جنس الكتاب بكتابة كلمة "رواية "على الغلاف ؛ وهذا الرأى لا يمكن رفضه ؛ إلا فى حالات يصبح غير مقبولا ؛ مثل هذه الحالة ، فلا يصح أن يرسم فنان لوحته بالتقاليد و الألوان التى تخص عصر قديم ؛ ثم يقدمها على أنها من التراث ؛ حتى ولو كانت ضمن معرض عن أعماله الخاصة؛ أو مخرج يقدم فيلمه بشكل تسجيلى و يكتب فى مقدمته ان الأحداث التى تدور فيه واقعية ؛ و يحتج بأنه لم يقصد الخلط بدليل أن كتب على " أفيشات " الفيلم أنه فيلم روائى .
و برغم كل هذا و بعد هدوء العاصفة ؛ أدعو الجميع لقراءة " عزازيل " كعمل أدبى يحمل كثير من الرؤى العميقة و يلقى بظلاله على الواقع و تكشف لنا إن الإرهاب الفكرى و العنف ليس من صناعة عقيدة معينة بل هو نتاج لازم لمن يظنون أنهم متحدثين بالنيابة عن الله سبحانه.
نشرت بجريدة الديارـــ المصرية فى باب ديار الثقافة